تحرير: مدونة مكنة
في قلب الثورة الصناعية الرابعة، تقف شركة ABB كمثال حي على كيف يمكن للابتكار والتحول الاستراتيجي أن يعيدا تشكيل مستقبل شركة صناعية. تمتد جذور ABB إلى أكثر من 140 عامًا، ومع كل حقبة كانت تعيد تعريف ذاتها: من التركيز على البنية التحتية إلى الرقمية، ومن محركات الكهرباء إلى الذكاء الاصطناعي. هذه هي حكاية شركة سويسرية - سويدية أصبحت من أعمدة التكنولوجيا الصناعية في القرن الحادي والعشرين.
المرحلة الأولى: الجذور المحلية والتخصص التقني (1883–1950)
بدأت الحكاية من مدينتين مختلفتين: فـ Asea تأسست في السويد عام 1883 على يد لودفيغ فريدولم، بينما تأسست BBC (Brown Boveri) عام 1891 في سويسرا على يد تشارلز براون. في تلك الفترة، كان نموذج الأعمال تقليديًا ومتكاملاً رأسيًا، مع اعتماد قوي على البنية التحتية الوطنية ومشاريع الطاقة البخارية والكهربائية.
تخصصت الشركتان في تصنيع المحولات، المولدات، والمحركات الصناعية، مستفيدة من الطفرة التي شهدها قطاع السكك الحديدية ومحطات الكهرباء، وتمتعتا بعلاقات قوية مع الحكومات المحلية، مما ساعدهما على النمو بوتيرة ثابتة.
المرحلة الثانية: التوسع الجغرافي واللامركزية (1950–1987)
مع إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وسّعت Asea وBBC حضورهما في الأسواق العالمية. بدأتا العمل وفق ما يعرف بنموذج التوسع الجغرافي متعدد الوحدات، حيث تأسست فروع مستقلة في مناطق جديدة، لا سيما في أمريكا اللاتينية وآسيا.
ركّزت BBC على أسواق المحركات الصناعية الثقيلة، بينما طورت Asea حضورها في قطاع الكهرباء والسكك الحديدية في الدول الإسكندنافية. تميز هذا النموذج بالتشغيل اللامركزي، حيث أُعطيت كل وحدة صلاحيات أوسع في اتخاذ القرارات بما يتناسب مع خصوصيات السوق المحلي.
المرحلة الثالثة: الاندماج وبناء شركة عالمية (1988–2000)
في عام 1988، اندمجت الشركتان لتشكلا ABB Ltd، في واحدة من أضخم عمليات الاندماج الصناعي العابر للحدود في أوروبا. هذا التحول جاء بهدف توحيد الموارد التقنية، وتوسيع القاعدة الجغرافية، وتعزيز الكفاءة التشغيلية.
قاد الشركة بيرسي بارنيفك، الذي غرس مبدأ "فكر عالميًا، ونفذ محليًا"، ما أتاح للوحدات الإقليمية حرية التكيّف مع أسواقها. خلال التسعينات، بلغت إيرادات الشركة أكثر من 30 مليار دولار، وارتفع عدد موظفيها إلى ما يزيد عن 200 ألف موظف موزعين في أكثر من 100 دولة.
المرحلة الرابعة: إعادة الهيكلة وتركيز الأعمال (2000–2015)
مع دخول الألفية، واجهت ABB تحديات متعددة، منها التوسع المفرط، ارتفاع التكاليف، وأزمات في قطاعات غير استراتيجية. فشرعت الشركة في عمليات إعادة هيكلة كبرى، شملت بيع أنشطتها في الطاقة النووية، وتقليص عدد الموظفين إلى أقل من 120 ألف.
تمحور نموذج الأعمال الجديد حول القطاعات الأساسية ذات الهوامش المرتفعة: الكهرباء، الأتمتة، الروبوتات. شهدت الفترة أيضًا تعزيز كفاءة العمليات، وتقوية الممارسات المالية، ما أدى إلى تقليص صافي الدين بمقدار 4 مليارات دولار بحلول 2004.
المرحلة الخامسة: التحول الرقمي والابتكار الصناعي (2016–2020)
تحت قيادة أولريش سبايسهوفر، ثم بيورن روزنغرين لاحقًا، أطلقت ABB استراتيجية رقمية شاملة من خلال منصة ABB Ability™، التي دمجت بين البرمجيات، الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء الصناعي.
استثمرت الشركة أكثر من مليار دولار سنويًا في البحث والتطوير، مع تركيز خاص على المنتجات الذكية وحلول الأتمتة الرقمية. وفي عام 2020، أكملت ABB التخارج من قطاع شبكات الطاقة عبر بيع وحدة Power Grids لشركة Hitachi مقابل 11 مليار دولار، مما مثّل إعادة تموضع جذري نحو البرمجيات والخدمات.
المرحلة السادسة: نموذج ABB Way والتوسع الذكي (2021–2025)
اعتمدت ABB نموذج تشغيل جديد يُعرف بـ "ABB Way"، حيث تم منح استقلالية تشغيلية كاملة لكل من المجالات الأربعة: الكهرباء، الحركة، أتمتة العمليات، والروبوتات. أتاحت هذه الهيكلية تعزيز الكفاءة والمرونة، وتحقيق نتائج مالية قوية.
في عام 2024، بلغت إيرادات الشركة 32.85 مليار دولار، وصافي أرباحها 3.93 مليار دولار. تم توزيع الإيرادات جغرافيًا على النحو التالي: 11.8 مليار دولار من الأمريكتين (منها 8.9 مليار من الولايات المتحدة)، 11.1 مليار من أوروبا، و9.9 مليار من آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا (منها 4.3 مليار من الصين). بلغ عدد موظفي الشركة حوالي 110,000 شخص في أكثر من 100 دولة.
أطلقت الشركة منشآت جديدة في الولايات المتحدة باستثمارات تتجاوز 100 مليون دولار، ووسعت عملياتها في الأسواق الناشئة، التي شكلت 25% من إجمالي النفقات الرأسمالية في 2024.
التحول في نموذج الأعمال: من المنتج إلى الحل
شهد نموذج عمل ABB تحولات جوهرية: من شركة تبيع المنتجات الصناعية، إلى مؤسسة تبيع الحلول الرقمية المتكاملة. يمثل أكثر من 60% من منتجاتها اليوم حلولًا رقمية أو مُمكّنة بالبرمجيات. وتشمل عروضها خدمات استشارية، حلول ذكاء اصطناعي، ومنصات إدارة دورة الحياة مثل ABB Care.
استثمرت الشركة ما مجموعه 10.6 مليار دولار في البحث والتطوير منذ 2016، ويعمل أكثر من 7,800 موظف في وظائف R&D، معظمهم في حلول البرمجيات والذكاء الاصطناعي.
الابتكار كشريان استراتيجي
براءات الاختراع تجاوزت 28,000، من بينها حلول مثل ABB Ability™ Genix ومنصة Freelance DCS. كما دخلت الشركة في شراكات استراتيجية مع Microsoft، وجامعات عالمية لتطوير حلول قائمة على الذكاء الاصطناعي.
في عام 2024، بلغت مصاريف البحث والتطوير غير المرتبطة بالطلبات حوالي 1.47 مليار دولار، أي ما يعادل 4.5% من إجمالي الإيرادات.
الاستدامة والمسؤولية المجتمعية في صلب النموذج
حصلت ABB على اعتماد مبادرة الأهداف القائمة على العلم (SBTi) لأهدافها المناخية، وتلتزم بخفض الانبعاثات بنسبة 25% للنطاق 3 بحلول 2030، وتحقيق انبعاثات صفرية للنطاق 1 و2 بحلول 2050. كما زادت نسبة النساء في المناصب الإدارية العليا إلى 21.3% بحلول نهاية 2024.
الأداء المالي: كفاءة وربحية واستدامة
بلغ هامش الأرباح التشغيلية (EBITA) 18.1% في 2024، وحققت الشركة معدل نمو في الإيرادات بلغ 3%، وصافي أرباح ارتفع بنسبة 5% مقارنة بالعام السابق. كما بلغ عائد رأس المال المستثمر (ROCE) 22.9%، والتدفق النقدي الحر 3.94 مليار دولار.
تحافظ ABB على تصنيفات ائتمانية قوية: A من S&P، وA2 من Moody's، مع نسب تحويل نقدي صحية للغاية.
الخاتمة: نموذج يحتذى به في التحول الصناعي الذكي
تُجسد ABB مسار التحول العميق من شركة صناعية تقليدية إلى منصة تكنولوجية عالمية تقود مستقبل الكهرباء والأتمتة. لقد مرّت من نماذج أعمال تقليدية متكاملة، إلى محفظة دولية لامركزية، إلى عمليات موحدة استراتيجية، ثم إلى شركة تعتمد الذكاء الصناعي والبيانات والتحليل التنبئي كجوهر لقدرتها التنافسية.
رحلة ABB تبرز درسًا واضحًا: في عالم تسوده التغيرات الجذرية، لا ينجو إلا من يملك الشجاعة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية، ويستثمر في مستقبله الرقمي، دون أن يفقد جذوره الهندسية الراسخة.