تحرير: مدونة مكنة
مقدمة:
في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن الطب كما نعرفه اليوم، ولم يكن للدواء صناعة حقيقية إلا على نطاق ضيق ومحدود. كانت العلاجات تعتمد على العطارين والوصفات الشعبية والمستحضرات اليدوية. في قلب هذا الواقع التقليدي، برز شاب سويسري بعين على المستقبل: فريتز هوفمان، مؤسس شركة روش، الذي رأى أن الصحة تستحق نهجًا علميًا، منظّمًا، وصناعيًا. وفي عام 1896، تأسست "ف. هوفمان-لا روش وشركاه"، لتبدأ رحلة استثنائية من الابتكار، العبور بين الأزمات، والتحول المستمر الذي جعلها واحدة من أكثر الشركات تأثيرًا في عالم الرعاية الصحية.
بداية القصة:
وُلد فريتز هوفمان في بازل عام 1868 لأسرة تعمل في صناعة النسيج. اكتسب من أسرته روح التجارة، لكن تجربته الشخصية في مدينة هامبورغ خلال تفشي الكوليرا تركت فيه أثرًا لا يُمحى، وشكّلت نقطة تحول في رؤيته. هناك، لاحظ ضعف الاستجابة الطبية، وافتقار الناس إلى الأدوية الموثوقة. فقرر أن يسعى لتوفير أدوية ذات جودة موحّدة، تُنتج صناعيًا وتُوزّع على نطاق عالمي.
بدأ فريتز عمله في مصنع صغير في شارع "غرينزاخر" بمدينة بازل مع شريكه الكيميائي ماكس تراوب. بعد عامين، انسحب تراوب، وأعاد فريتز تأسيس الشركة بمفرده، مستثمرًا في فكرة رئيسية: توحيد تركيبة الدواء وتسويقه دوليًا.
التحول الأول الكبير جاء مع إطلاق منتج "سيولين" عام 1898، شراب سعال بنكهة البرتقال يعتمد على مادة "ثيوكول" المضادة للسل. استمر المنتج في الأسواق لأكثر من 60 عامًا، وأثبت أن المنهج الصناعي في تصنيع الدواء يمكن أن يحقق قبولًا جماهيريًا واسعًا.
التحولات الاستراتيجية:
اعتمدت روش منذ البداية على استراتيجية توسعية سبّاقة. بحلول عام 1912، أنشأت مكاتب في تسع دول بثلاث قارات، منها الولايات المتحدة، فرنسا، روسيا، واليابان. كان ذلك قبل وقت طويل من تداول مفهوم "العولمة".
في ثلاثينيات القرن الماضي، عمل الكيميائي البولندي-السويسري تاديوس رايخشتاين على تطوير فيتامين C صناعيًا داخل مختبرات روش، ليصبح حجر الزاوية لصناعة الفيتامينات الحديثة.
في عام 1957، دخلت روش مجال علم الأورام، لتصبح لاحقًا من أبرز اللاعبين عالميًا في هذا المجال، بقيادة علماء مثل روبرت دوشينسكي وشارلز هايدلبرغ.
ثم جاء تأسيس معهد بازل للمناعة عام 1969، والذي لعب دورًا علميًا رائدًا. نال مديره نيلز كاج يرنه جائزة نوبل في الطب عام 1984، وتبعه العالم سوسومو تونيغاوا بجائزة نوبل أخرى عام 1987.
في التسعينيات، اتخذت روش قرارًا جريئًا: التركيز فقط على قطاعي الصيدلة والتشخيصات. فباعت أقسام العطور والفيتامينات، واستثمرت في شركات تكنولوجية رائدة:
- Genentech (الولايات المتحدة) في التكنولوجيا الحيوية
- Spark Therapeutics في العلاج الجيني
- Flatiron Health في تحليل بيانات السرطان
إدارة الأزمات والمرونة المؤسسية:
تاريخ روش حافل بالأزمات والتحديات، من الحربين العالميتين إلى الثورات والركودات الاقتصادية. خلال الثورة الروسية عام 1917، فقدت الشركة أحد أكبر أسواقها، لكن القيادة الحكيمة من الكيميائي إميل كريستوف باري أعادت هيكلتها، وأسست لنموذج أعمال يرتكز على البحث والتطوير العلمي.
بفضل هذه المرونة، استطاعت روش أن تتجاوز الأزمات المالية، وتحوّل التحديات إلى فرص للتوسع والنمو، وهو ما تجلى في أدائها في القرن الحادي والعشرين.
الأداء المالي والاستدامة:
بحسب بيانات عام 2024:
- الإيرادات العالمية: 67.76 مليار دولار
- الاستثمارات في البحث والتطوير: 14.78 مليار دولار
- صافي الأرباح: 10.3 مليار دولار
تُوظّف روش أكثر من 103,000 موظف في أكثر من 150 دولة.
وقد خفّضت انبعاثاتها الكربونية بنسبة 69% منذ عام 2004، وتطمح لتحقيق صفر انبعاثات بحلول 2050.
مقارنة تنافسية:
تمتلك روش ميزة تنافسية فريدة بين شركات الأدوية الكبرى، تتمثل في:
- الدمج الكامل بين التشخيص والعلاج
- المقدرة على تقديم حلول شاملة للرعاية الدقيقة
- استثمارها المتواصل في الذكاء الاصطناعي والطب الرقمي
في حين تركز شركات مثل Pfizer وNovartis على قطاع واحد، تتيح روش للمريض تجربة متكاملة تبدأ من التشخيص الجزيئي، مرورًا بتحليل البيانات، وانتهاءً بالعلاج الموجه.
الرؤية المستقبلية:
تسعى روش لتوسيع قدراتها الرقمية والطبية من خلال:
- إطلاق 12 تجربة سريرية متقدمة في 2025 تشمل أمراض القلب، الأعصاب، السمنة، والسرطان
- تطوير أدوات ذكاء اصطناعي لتحليل بيانات المرضى في الزمن الحقيقي
- توفير رعاية عن بُعد عبر منصات رقمية حديثة
- مضاعفة عدد المرضى في الدول النامية المستفيدين من أدويتها بحلول 2026
تعمل روش من خلال مراكزها مثل Roche Innovation Center Basel على إعادة تعريف الطب الحديث، عبر دمج الخوارزميات مع العلم البيولوجي.
خاتمة:
رحلة روش ليست فقط قصة شركة، بل قصة رؤية بعيدة الأمد. من شراب سعال بسيط إلى أنظمة رقمية تشخص الأمراض وتعالجها، تمثل روش نموذجًا لما يمكن أن تصل إليه شركة تؤمن بالعلم والابتكار والتكامل. إنها ليست مجرد شركة أدوية، بل منصة عالمية لحلول الرعاية الصحية المستقبلية.