تحرير: مدونة مكنة
حين تصبح الحرفية استراتيجية
في زمن تتسابق فيه العلامات التجارية نحو الأسواق، كانت هناك شركة سويسرية تبني مستقبلها بهدوء، حجرًا فوق حجر، ودقة فوق دقة. إنها ريشمونت – Richemont، الشركة التي اختارت أن تصنع الشهرة بدلًا من شرائها، وتغزل خيوط الرفاهية من حرفة يدوية وإدارة صامتة.
منذ تأسيسها عام 1988 وحتى عام 2024، تطورت Richemont من مجموعة ناشئة إلى واحدة من أكبر ثلاث شركات للسلع الفاخرة عالميًا، إلى جانب LVMH وKering، ونجحت في إعادة تعريف كيف يجب أن يُبنى نموذج عمل في عالم لا يعترف إلا بالابتكار والتجربة الراقية.
🎬 التأسيس والبذور الأولى (1988)
تأسست شركة ريشمونت (Compagnie Financière Richemont S.A.) على يد رجل الأعمال الجنوب أفريقي يوهان روبرت Johann Rupert، بوصفها ذراعًا دوليًا لمجموعة ريمبرانت Rembrandt Group.
منذ البداية، آمن روبرت بأن الرفاهية لا تُبنى عبر حملات دعائية، بل عبر علامات تجارية أصيلة تجمع بين الحرفة والهوية والثقة.
لم يكن هدف Richemont أن تصبح "شركة استحواذات"، بل أن تؤسس مجموعة علامات Maison Group لكل منها طابع مستقل.
💎 المجوهرات أولًا… تأسيس العمود الفقري
أدركت Richemont أن المجوهرات ليست مجرد سلعة فاخرة، بل هوية ثقافية ومكانة اجتماعية، ولهذا جعلتها أولى محطاتها.
أبرز العلامات التي استثمرت فيها:
- كارتييه Cartier
- العلامة الفرنسية العريقة، والتي أصبحت حجر الزاوية في محفظة Richemont، تمثل أسلوبًا خالدًا في تصميم المجوهرات والساعات.
- فان كليف أند آربلز Van Cleef & Arpels
- الدار الباريسية التي تتقن فن الجمع بين الخيال والتقنية في تصاميمها، وخاصة مجموعاتها المستوحاة من الزهور والقصص الخرافية.
- بوتشيلاّتي Buccellati
- العلامة الإيطالية الفاخرة التي انضمت للمجموعة عام 2019، وتمكنت من تحقيق نمو بمقدار 4.5 ضعف في المبيعات حتى عام 2024.
- فيرنييه Vhernier
- دار مجوهرات إيطالية راقية استحوذت عليها Richemont بالكامل في 2024 لتعزيز موقعها في فئة المجوهرات المعاصرة.
الأثر:
بحلول عام 2024، شكّلت مبيعات المجوهرات 69% من إجمالي إيرادات المجموعة البالغة 20.6 مليار يورو، مما يؤكد أن Richemont ليست مجرد شركة، بل إمبراطورية مجوهرات فاخرة.
⌚ الساعات… حراسة الوقت بروح الفن
لم تكتف Richemont بالمجوهرات، بل وسّعت آفاقها إلى عالم الساعات، لكن على طريقتها الخاصة: التركيز على الحرفية والتاريخ، وليس الاتجاهات المؤقتة.
أبرز علامات الساعات:
- فاشرون كونستانتين Vacheron Constantin
- أقدم دار ساعات فاخرة لا تزال تعمل منذ عام 1755، تجسد الكمال الكلاسيكي.
- آي دبليو سي شافهاوزن IWC Schaffhausen
- دار سويسرية تجمع بين الهندسة الدقيقة والتصميم الرجولي العصري.
- بياجيه Piaget
- معروفة بدمج الساعات والمجوهرات في ابتكارات أنثوية راقية.
- إيه. لانغ آند صونه A. Lange & Söhne
- العلامة الألمانية الراقية التي تعتبر مرجعًا في التصميم الميكانيكي النخبوي.
- جايجر لوكولتر Jaeger-LeCoultre
- تلقب بـ"ورشة صناعة الساعات الكبرى" لابتكاراتها التقنية المتقدمة.
- بانيراي Panerai
- تجمع بين التراث الإيطالي والتكنولوجيا السويسرية، وقد طورت لنفسها قاعدة جماهيرية وفية.
- روجيه دوبوي Roger Dubuis
- توجه جريء نحو التصاميم المستقبلية والميكانيك المعقّد.
- بوم إيه ميرسييه Baume & Mercier
- خيار كلاسيكي للأناقة اليومية.
الأرقام:
- مبيعات قطاع الساعات بلغت 3.8 مليار يورو في 2024
- هامش التشغيل لهذا القطاع بلغ 15.2%
🏪 التحكم في التجربة... البيع المباشر
في تحول استراتيجي كبير، انتقلت Richemont من نموذج الاعتماد على الشركاء إلى نموذج البيع المباشر للعميل عبر المتاجر والمواقع الرسمية.
بحلول 2024، بلغت نسبة المبيعات المباشرة من متاجرها الرسمية ومواقعها الإلكترونية 75%، ما منحها:
- قدرة أكبر على التحكم بالتسعير والتجربة
- تفاعل مباشر مع المستهلك
- بيانات عملاء قيّمة لدعم قرارات التسويق والمنتجات
🖥️ YNAP... تجربة رقمية وانفصال مكلف
استحوذت Richemont في السابق على منصة YOOX NET-A-PORTER (YNAP)، بهدف تسريع التحول الرقمي. لكن التجربة لم تسر كما هو متوقع:
- اختلافات ثقافية
- منصات مفرطة في التعقيد
- منافسة متصاعدة من منصات مثل Farfetch
في 2024، أعلنت Richemont تخارجها من YNAP وسجلت خسائر قدرها 1.5 مليار يورو.
لكنها أعادت بناء تجربتها الرقمية تحت سيطرتها، واستثمرت في تقنيات شفافية مثل Aura Blockchain Consortium.
👔 القيادة الجديدة – نيكولا بوس Nicolas Bos
في 2024، تولّى نيكولا بوس، الرئيس التنفيذي السابق لدار فان كليف أند آربلز Van Cleef & Arpels، قيادة Richemont.
يحمل بوس فلسفة ترتكز على:
- تعظيم قيمة كل دار Maison بشكل مستقل
- تحسين الكفاءة الرقمية
- توسيع البصمة العالمية بأسلوب راقٍ
- الاستثمار في الاستدامة والبصمة البيئية
- إطلاق أكاديمية Richemont للاستدامة
📍السوق العالمي... بين التحديات والفرص
الأسواق الرئيسية:
- آسيا (خصوصًا الصين واليابان): أكبر مصدر للنمو
- الولايات المتحدة وأوروبا: أسواق مستقرة
- الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية: فرص توسع واعدة
شرائح العملاء:
- النخبة التقليدية
- الأثرياء الجدد
- جيل Z المهتم بالمنتجات المسؤولة أخلاقيًا
⚠️ تحديات لا تعرف الترف
رغم النجاح، تواجه Richemont مجموعة من المخاطر:
سوقية:
- تقلبات الطلب في الصين
- صعود الساعات الذكية
- تغيّر سلوك الجيل الشاب
تشغيلية:
- نقص الحرفيين
- اضطرابات في سلسلة التوريد
- مخاطر الأمن السيبراني
مالية:
- تقلبات العملات (خصوصًا الفرنك السويسري)
- تكاليف استحواذ مرتفعة
- تغيرات ضريبية
♻️ الاستدامة… رفاهية مسؤولة
تحولت Richemont إلى نموذج يحتذى به في:
- الشفافية في سلاسل التوريد
- تصنيف CDP المناخي: A
- المساواة في الأجور بين الجنسين
- استخدام المعادن الثمينة من مصادر مسؤولة
✅ ماذا نتعلم من Richemont؟
قصة Richemont ليست مجرد قصة نجاح مالي، بل قصة إصرار على الحرفية الأصيلة، وعلى بناء نموذج عمل طويل الأجل، يتطور مع تغير الزمن، دون أن يفقد ملامحه.
- في عالم يشتعل فيه "الترند"، كانت Richemont تبني الجوهرة.
- في اقتصاد يلهث وراء الأرباح السريعة، اختارت Richemont الاستثمار في القيمة المستدامة.
- ومع قيادة جديدة، واستراتيجية رقمية، ومحفظة علامات قوية باللغتين العربية والإنجليزية، تبدو Richemont مؤهلة لتبقى مرجعًا في عالم الفخامة لعقود قادمة.