تحرير: مدونة مكنة
من الجذور الصناعية إلى منصة مالية رقمية عالمية
في قلب زيورخ وعلى ضفاف الريادة المالية العالمية، تقف UBS Group AG اليوم كأكبر مدير للثروات في العالم، ومؤسسة مالية تمتد جذورها لأكثر من 160 عامًا.
لكن ما يميز UBS ليس فقط تاريخها العريق، بل قدرتها على إعادة تعريف ذاتها مرارًا في مواجهة التغيرات الاقتصادية، والاضطرابات الجيوسياسية، والانفجارات التكنولوجية، وحتى الأزمات الوجودية التي أطاحت بمنافسين كبار.
قصة UBS ليست عن النمو وحده، بل عن التحول الذكي والبناء الاستراتيجي طويل المدى. من مؤسسة محلية تخدم الصناعات السويسرية في القرن التاسع عشر، إلى كيان عالمي يعيد رسم مستقبل الخدمات المالية، فإن UBS تقدم درسًا متجددًا في التصميم المؤسسي المرن ونموذج الأعمال المرتكز على القيمة.
من بنك محلي إلى ركيزة الاقتصاد السويسري (1862–1998)
تأسست اللبنات الأولى لما يعرف اليوم بـ UBS في عام 1862 مع إنشاء Bank in Winterthur، بهدف تمويل التوسع الصناعي في سويسرا. تلا ذلك تأسيس Toggenburger Bank، قبل أن يندمجا في عام 1912 تحت اسم Union Bank of Switzerland.
بالتوازي، برزت Swiss Bank Corporation (SBC) في بازل منذ عام 1872، وركّزت على تطوير الخدمات الاستثمارية. شكل هذان الكيانان قطبي الصناعة المصرفية في سويسرا لعقود.
وعلى مدار القرن العشرين، انطلقت موجات من الاندماجات والاستحواذات، جمعت عشرات البنوك المحلية والإقليمية تحت رايتي UBS وSBC، ليتهيأ المشهد للاندماج الكبير.
الاندماج الكبير وبناء نموذج البنك الشامل (1998–2008)
في عام 1998، أُعلن رسميًا عن اندماج UBS وSBC في خطوة وصفت بأنها "استحواذ عكسي" وفق بعض التحليلات، ولكنها حملت اسمًا موحدًا: UBS AG.
نتج عن ذلك ولادة ما سُمّي وقتها بـ "البنك الشامل"؛ كيان يجمع بين:
- إدارة الثروات
- الخدمات الاستثمارية
- إدارة الأصول
- المصرفية للأفراد والشركات في سويسرا
الصفقة لم تكن فقط دمجًا للأصول، بل إعادة هيكلة جذرية للطموح المؤسسي، أدت إلى أن تصبح UBS بحلول 2007 أحد أكبر البنوك العالمية بإيرادات بلغت 35 مليار دولار وأصول تحت الإدارة تجاوزت 1.3 تريليون دولار.
الأزمة المالية وإعادة اكتشاف الهوية (2008–2012)
مثل غيرها من البنوك العالمية، لم تنجُ UBS من الأزمة المالية. خسائر ضخمة فاقت 50 مليار دولار، وقيمة سوقية هبطت من 120 إلى 26 مليار دولار، وغرامات وتنظيمات جديدة أعادت تعريف المسموح والممنوع في الأسواق المالية.
خلال هذه الفترة، أعادت UBS النظر في نموذج أعمالها، وبدأت بتقليص الاعتماد على المصرفية الاستثمارية لصالح تركيز أكبر على إدارة الثروات.
بقيادة أوسفالد غروبل، تم تقليص الأنشطة الاستثمارية عالية المخاطر بنسبة 70%، وسُرحت آلاف الوظائف، وأُغلقت العديد من العمليات الخارجية غير الفعالة.
بحلول 2012، عادت UBS إلى جذورها: مصرف خاص عالمي النطاق، لكن بتركيز أكثر حدة ووضوحًا على عملائها الأثرياء.
عقد من التحول نحو "الثروات الرقمية المستدامة" (2013–2023)
في عام 2014، تم تأسيس UBS Group AG كشركة قابضة، في خطوة هيكلية لتوفير شفافية ومرونة أكبر في الامتثال التنظيمي.
ومن هنا بدأت UBS رحلة جديدة عنوانها: التحول من البنك الشامل إلى مدير الثروات العالمي الذكي.
قادت هذه المرحلة إلى نتائج نوعية:
- تضاعف الأصول تحت الإدارة إلى أكثر من 3.3 تريليون دولار في 2020
- توسع كبير في آسيا وأمريكا، لا سيما عبر استحواذها على Wealthfront بقيمة 1.4 مليار دولار
- إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليلات في تقديم المشورة المالية عبر أدوات مثل UBS SmartWealth
كان هذا العقد بمثابة الانتقال من نموذج "الأذرع المتعددة" إلى كيان متمركز حول إدارة الثروات الذكية، والاستثمار المؤسسي، والخدمات المصرفية الخاصة المدعومة بالتكنولوجيا.
منقذ السوق السويسري: استحواذ Credit Suisse (2023)
في لحظة مفصلية من التاريخ المالي الأوروبي، تدخلت UBS في مارس 2023 للاستحواذ على Credit Suisse في صفقة سريعة بلغت 3 مليارات فرنك، مدعومة بضمانات حكومية بقيمة 9 مليارات وخط سيولة بـ 100 مليار فرنك من البنك الوطني السويسري.
الدمج اكتمل قانونيًا في يونيو 2023، وتلاه تكامل تشغيلي في يوليو 2024، ما أوجد كيانًا مصرفيًا هجينًا يجمع بين قوة UBS في إدارة الثروات، وخبرة Credit Suisse في الخدمات الاستثمارية.
نتج عن ذلك:
- أصول مدارة تفوق 5 تريليونات دولار
- نمو القيمة السوقية إلى أكثر من 105 مليار دولار بنهاية 2024
- حضور أقوى في أوروبا وآسيا والولايات المتحدة
نموذج عمل UBS اليوم: التخصص الذكي والهيمنة المستقرة
تقوم UBS الآن على أربع ركائز مترابطة:
- إدارة الثروات العالمية: تمثل أكثر من 60% من الإيرادات
- إدارة الأصول: تقدم حلولًا مخصصة للمؤسسات وصناديق التقاعد
- الخدمات المصرفية السويسرية: بنك محلي قوي ذو ربحية عالية
- الخدمات المصرفية الاستثمارية: محدودة، انتقائية، ومرتبطة بخدمة عملاء الثروات
ويُدعم هذا النموذج ببنية تكنولوجية مرنة، ونظم حوكمة متقدمة، وثقافة مؤسسية يشارك فيها الموظفون بملكية حقيقية (26% منهم يمتلكون أسهمًا في الشركة).
ما يميز UBS: المزايا التنافسية العميقة
- رأس مال قوي: 73.8 مليار دولار رأس مال أساسي (CET1)
- شبكة عالمية تغطي 50+ دولة
- نظام تقارير استدامة متقدم وفق المعايير الأوروبية
- منصات رقمية متطورة تعزز تجربة العميل الثري
أضف إلى ذلك أن 60% من الإيرادات تأتي من خدمات تجميع الأصول (Asset Gathering)، وهي مصدر مستقر وعالي الهامش في بيئة تعاني من تقلبات السوق.
القيادة والرؤية: من إرموتي إلى هامرز
عاد سيرجيو إرموتي إلى رئاسة المجموعة في 2023 ليقود دمج Credit Suisse بثقة مدروسة، مدعومًا بإرث سابق من التحول المؤسسي بين 2011 و2020.
وفي الإدارة التنفيذية، يقود رالف هامرز محور التحول الرقمي والتحكم في التكاليف، بخطط توفير سنوي تبلغ 3 مليارات دولار.
رؤية UBS لا تتوقف عند الريادة، بل تمتد إلى صياغة مستقبل مصرفي عالمي متكامل، أكثر ذكاءً، استدامة، وتخصيصًا.
خاتمة: UBS نموذج للبنك الذي لا يشيخ، بل يتحول
قصة UBS هي قصة مرونة استراتيجية وتعلم مؤسسي.
من بنك صغير في فينترتور إلى صانع قرار مالي عالمي، لم تكن الرحلة سهلة، لكنها كانت دائمًا محسوبة.
واليوم، تقدم UBS درسًا في كيفية بناء نموذج أعمال يتحرك مع الزمن، لا يتشبث بالماضي، بل يصمّم مستقبله بأدوات الذكاء، والتخصص، والثقة.
في زمن تتساقط فيه علامات مصرفية شهيرة، تبقى UBS ركيزة… لأنها ببساطة، أعادت تصميم اللعبة، لا قواعدها فقط.